ليست كانتشانابوري (Kanchanaburi) على قائمة أبرز الوجهات السياحية بالنسبة لمعظم زوار تايلند، حيث يجهل الكثيرون قصتها ولا يدركون أهميتها، أو أنهم لا يعلمون أصلاً بوجودها. وهذه مفارقة غريبة جداً، حيث تعد كانتشانابوري من أهم الوجهات السياحية على مستوى تايلند ومنطقة جنوب شرق آسيا، ومن أهم معالم التاريخ الحديث، فقد كانت مسرحاً لمجموعة من أبرز أحداث الحرب العالمية الثانية، التي ساهمت في رسم عالمنا المعاصر كما نعرفه، وقد تم تخليد ذكراها في عدد من أفلام هوليود الشهيرة.
وتعد كانتشانابوري مقاطعة في مملكة تايلند، عاصمتها بلدة كانتشانابوري، وهي تبعد حوالي ساعتين ونصف بالسيارة عن العاصمة بانكوك (حوالي 140 كلم). وتنبع أهمية هذه البلدة الصغيرة من أنها كانت نقطة محورية على خط السكة الحديدية الذي ربط تايلند مع بورما، والذي سمي لاحقاً خط الموت (Death Railway)، حيث حصدت عمليات تشييده أرواح ما يزيد على 120 ألف شخص، كان معظمهم من العمال الآسيويين وأسرى الحرب من جيوش التحالف (بريطانيا، هولندا، أستراليا، أمريكا).
وقد يعرف هواة الفن السابع هذه القصة من خلال الفيلم الشهير جسر نهر كاواي (The Bridge on the River Kwai)، والذي حصل عند إطلاقه على 7 جوائز أوسكار، ويصنف أحد أهم الأفلام التاريخية في العالم. وهو مقتبس عن رواية فرنسية تحمل نفس الاسم (Le Pont de la Rivière Kwai)، من تأليف بيير بول.
وقد زرت كانتشانابوري مرتين، قضيت فيها 5 أيام في المجمل، ولم أرى كل ما فيها بالكامل. وعلاوة على أهميتها التاريخية، تعد المنطقة مثالية للاسترخاء والاستجمام، حيث أنها جبلية ومرتفعة نسبياً، وغنية بالغابات والخضرة، والجو فيها لطيف. كما يتوفر فيها مسارات لركوب الدراجات الهوائية وسط الغابات، ويمكن القيام برحلات مسير في الجبال للتعرف على المواقع التاريخية، فضلاً عن أنها تمثل وجهة مثالية للباحثين عن مكان لقضاء شهر العسل.
وأنصح بزيارة المنطقة لمدة 3 أيام على الأقل، حيث يوجد فيها كما ذكرت الكثير من المواقع والمعالم لرؤيته، وتخصيص يوم كامل على الأقل للاسترخاء والاستمتاع بالطبيعة. أما لمن لديه وقت كافي، فأنصح بقضاء خمس أيام وتقسيمها ما بين الاستجمام وزيارة المواقع السياحية والأثرية.
كما أنصح باستئجار سيارة لمن يجيد القيادة، فهي من جهة أقل تكلفة من استخدام المواصلات العامة ومن جهة أخرى تتيح المجال لزيارة عدد أكبر من المواقع، والتوقف حيث شئت وقدر ما شئت. وإن لم تسنح الفرصة لاستئجار سيارة، يمكن استئجار سيارة مع سائق أو ركوب باص للوصول من بانكوك إلى كانتشانابوري (وبالعكس)، ومن ثم يمكن الترتيب مع إدارة الفندق للذهاب في رحلات يومية لزيارة المواقع الأثرية، حيث تنظم شركات سياحية عديدة زيارات لمجموعات صغيرة إلى المواقع السياحية والأثرية، وتقل السياح من وإلى الفندق. كما يمكن السفر بالقطار من بانكوك إلى كانتشانابوري، وهي رحلة أطول من السيارة، حيث تستغرق 4-5 ساعات، لكنها تتيح الاطلاع على مناظر خلابة، وتوجد بعض الرحلات التي تمر فوق الجسر الشهير (لمزيد من المعلومات يمكن مراسلتنا على البريد الإلكتروني).
ويتوقف مكان الإقامة على الغرض من الزيارة والمعالم المختارة، حيث أدرج أهمها أدناه. وتضم بلدة كانتشانابوري العدد الأكبر من المواقع السياحية والتاريخية، بما فيها الجسر القديم، إلا أن المنطقة التي شهدت أبرز مجريات تلك الفترة، والتي تدعى معبر نيران جهنم (Hellfire Pass)، تبعد حوالي 85 كلم عن البلدة. فضلاً عن ذلك، فإن معظم المنتجعات تقع في المنطقة المحيطة بالمعبر. لذا أنصح من يرغب بالاستجمام معظم الوقت وزيارة معبر نيران جهنم وبعض الآثار بالإقامة في أحد المنتجعات القريبة من المعبر، حيث يمكن تخصيص أحد الأيام لزيارة البلدة ومعالمها. أما لمن يرغب بالتركيز على البلدة، ورؤية معالمها والاطلاع بشكل أكبر على نمط الحياة التايلندي، فيمكن الإقامة في البلدة وتخصيص يوم لزيارة المعبر والمنطقة المحيطة.
ويمكن تلخيص أبرز وجهات مقاطعة كانتشانابوري كما يلي:
بلدة كانتشانابوري
تضم البلدة عدد من المواقع السياحية والأثرية والمتاحف، حيث تحتاج زيارتها بشكل وافي ليومين على الأقل. وهي بلدة صغيرة وهادئة جداً، تختلف تماماً عن بانكوك وبوكيت وسواها من الوجهات المزدحمة في تايلند، وتضم أيضاً عدد من المطاعم التي تقدم أطباق تايلندية مميزة، وبعض الأطباق المتخصصة من تلك المنطقة.
ومن أهم مواقع البلدة السياحية وسطها التاريخي، وهو أحد أقدم الشوارع فيها وفي المنطقة، حيث يضم أبنية يعود تاريخ تشييد إلى القرن التاسع عشر، وما قبل. وقد عملت بلدية المدينة على وضع لافتات توضيحية على المنازل والأبنية الأثرية في هذه المنطقة، تشرح أهميتها وتاريخ بنائها.
رة على الأقل ولمن يرغب بالإقامة في بلدة كانتشانابوري، أنصح بتناول الطعام في مطعم أونز (On’s Thai Issan)، وهو مطعم شعبي بسيط، إلا أنه يقدم ألذ أطباق المطبخ التايلندي على مستوى الدولة بأسرها. قد تناولنا الطعام فيه يومياً خلال زيارتنا للبلدة، وهو دون شك من أفضل المطاعم التايلندية التي أكلت فيها. ويقع المطعم على مسافة قريبة من المقبرة العسكرية.
الجسر
يعد جسر القطار الذي يقطع نهر كاواي من أشهر معالم البلدة وتايلند عموماً، حيث يشهد تدفق آلاف السياح يومياً، معظمهم من الدول الغربية. والمنطقة المحيطة بالجسر غنية بالمعالم والمواقع الأثرية، كما تضم عدد من المقاهي والمطاعم المشيدة على ضفة النهر، والتي توفر فرصة للاستراحة ومشاهدة الجسر. كما يتوفر رحلات بالقارب على طول النهر. وقد يلاحظ السائح أن بعض عوارض الجسر الحديدية مستطيل، في حين أن الباقية مستدير، والسبب في أن الأقسام المستطيلة هي التي تم تدميرها من قبل جيوش الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، وقد تمت إعادة تشييدها في لاحقا بعد إعادة تشغيل خط القطار.
متحف جيث
يقع متحف جيث (JEATH Museum) على مسافة قريبة من الجسر، وهو عبارة عن متحف خاص قائم على جهد شخصي. وعلى الرغم من أن المتحف يختص بتاريخ الحرب العالمية الثانية رسمياً، إلا أنه يضم الكثير من الأمور التي لا علاقة لها بالحرب. وهو لا يتميز بموضوع محدد عموماً، وتنقصه الاحترافية في التصميم، حيث يمثل تجمعاً هائلاً لمقتنيات وأنتيكات وقطع أثرية وبقايا من تلك الحقبة وسواها من الحقب. ولا أنصح من ليس لديه الوقت الكافي بزيارة هذا المتحف، فهو كما قلت غير احترافي وكبير جداً، حيث يفضل تخصيص الوقت للمتاحف الأخرى، وهي أهم. بالمقابل، فهو يوفر فرصة جيدة لمن لديه الوقت للاطلاع على بعض ما يحتويه من مقتنيات مثيرة للاهتمام.
المقبرة العسكرية
تقع المقبرة العسكرية (Kanchanaburi War Cemetery) على بعد حوالي خمس دقائق بالسيارة من الجسر، باتجاه مدخل البلد، وهي تضم رفاة نحو 7000 عسكري من جيوش دول التحالف التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بريطانيا وهولندا وأستراليا ونيوزلندا والهند. وتتسم هذه المقبرة بتصميم رائع، ومساحات خضراء خلابة، وتحظى بعناية بالغة. وهي قريبة من الوسط التاريخي للمدينة، حيث يمكن الوصول إليه سيراً.
متحف الخط الحديدي
يقع متحف خط تايلند بورما (Thailand–Burma Railway Museum) بجانب المقبرة العسكرية، وهو يعد من أفضل المتاحف التي تتخصص بهذه الحقبة من الزمن وهذه المنطقة، حيث يقدم معلومات تخصصية عن تاريخ الخط الحديدي، وأسباب إعراض الإمبراطورية البريطانية عن تشييده قبل الحرب، وسبب إقبال الإمبراطورية اليابانية على ذلك. كما يحاول المتحف أن يحيي ذكرى العمال والأسرى الذين خسروا حياتهم وهم يعملون على هذا الخط، وبشكل خاص عشرات الآلاف من العمال الآسيويين، الذين لم يتم ذكرهم في جداول الموتى أصلاً، لأنهم كانوا عمال مأجورين. ويقدر عدد الذين قضوا نحبهم خلال عمليات تشييد هذا الخط بأكثر من 120 ألف، توفوا جراء ظروف العمل القاسية، وقلة الغذاء، وظروف المعيشة غير الإنسانية، والمعاملة القاسية، والتعذيب البربري على أيدي الضباط اليابانيين والجنود الكوريين، وعدم توفر علاج لأمراض بسيطة مثل الكوليرا، فقضت على الآلاف منهم.
معبر نيران جهنم

بلغ طول خط السكة الحديدة الذي ربط تايلند مع بورما 415 كلم، إلا أن القسم الأكثر أهمية وصعوبة فيه يمر عبر جبال كانتشانابوري، إذ سمي معبر نيران جهنم (Hellfire Pass) نظراً لأنه كان أصعب الأجزاء، وشهد موت أكبر عدد من الأسرى والعمال، فقد توجب عليه حفر الجبال الصخرية بأيديهم العارية وباستخدام أدوات بسيطة مثل المطارق والأزاميل فقط. وقد أجبر الجيش الياباني أسرى الحرب والعمال على العمل لمدة تصل إلى 18 ساعة يومياً في تكسير الصخور، وكانوا يقتاتون على مقدار حفنتين من الأرز يومياً فقط. فضلاً عن ذلك، كان يتوجب عليهم السير لأكثر من 10 كلم ذهاباً وإياباً من المعتقل إلى موقع العمل، وهي مسافة طالت أكثر مع تقدم العمل. كما يروى أن الدفعات الأخيرة من العمال والأسرى أجبرت على السير مسافات تصل إلى 350 كلم للوصول إلى مواقع العمل، حاملين العتاد والمعدات.
وتعد ظروف المعيشة والعمل التي عاشها هؤلاء الأسرى والعمال من ضمن الأصعب في التاريخ الحديث، حيث أن اليابانيين في ثقافتهم لم يكونوا يعتقدون أن من يهزم ويستسلم يستحق معاملة إنسانية، وأجحفوا بحقه هؤلاء العمال والأسرى لدرجة لا يمكن تصورها. وهذه دون شك وصمة عار كبيرة على جبين دولة تعتبر نفسها من الدول المتقدمة. ويوفر متحف الخط الحديدي في البلدة ومتحف معبر نيران جهنم صورة أقرب ما تكون الواقع عن هذه الظروف.
وعلى الرغم من أن بعض أجزاء ومعالم هذه الزيارة قد يكون قاسياً جداً، ويتسبب بالقشعريرة لكثيرين، إلا أنها تحمل الكثير من السمات الإيجابية، وفي مقدمتها حب الحياة والأمل، والذي يدفع الإنسان لتحمل ظروف لا يمكن تخيلها، حيث يسلط المتحف الأضواء على حكايات العديد من الأسرى الذين صمدوا في وجه هذه الظروف على مدى 4 سنوات، وعادوا عقب انتهاء الحرب إلى أهلهم وبنيهم، وتابعوا حياتهم.
وينصح بتخصيص نصف نهار على الأقل لزيارة المعبر، بما فيها رحلة الذهاب والإياب، واصطحاب كميات مياه شرب كافية، خاصة إذا كانت الزيارة وسط النهار. وتتطلب زيارة الموقع بأكمله بعض اللياقة، حيث يوجد العديد من الأدراج لصعوده ونزوله. وينصح بارتداء حذاء مناسب. ويمكن السير على طول الخط الحديدي لمسافة طويلة، إلا أن القسم الأهم يقع قرب مبنى الاستقبال، وهو مزود بلافتات شرح.
يذكر أن خط الحديد بأسره ضاع في الغابة مع مرور الزمن، حيث نمت الأشجار فيه واختفى، حتى الثمانينيات من القرن الماضي، إذ زار المنطقة أحد أسرى الحرب الأستراليين الذين نجوا من الحرب والاعتقال والعمل في الخط الحديدي للبحث عنه. وقد قامت السلطات التايلندية والأسترالية بإعادة اكتشافه بالكامل وتشييد المتحف.
وبالعودة إلى السينما، يمكن لمن يهوى الفن السابع مشاهدة فيلم رجل السكة الحديدية (The Railway Man)، وهو مقتبس عن قصة حقيقية تحكي سيرة إريك لوماكس (Eric Lomax)، ضابط بريطاني كان من ضمن أسرى الحرب الذين عملوا في خط السكة الحديدية، وعلاقته مع الضابط الياباني الذي أشرف على تعذيبه أثناء التحقيق، جاعلاً حياته جحيماً خلال فترة اعتقاله، وكيف تطورت هذه العلاقة بعد مرور عشرات السنين إلى صداقة. وهو من تمثيل نيكول كيدمان (Nicole Kidman) وكولين فيرث (Colin Firth). والفيلم مأخوذ عن كتاب سيرة ذاتية بقلم لوماكس، حيث يمكن لمن يحب القراءة مطالعة الكتاب أيضاً.